ملك وكتابة: من أيديولوجيا السياسة إلى أيديولوجيا الفردية
شخصيات فيلم "ملك وكتابة" الأساسية كلها، تنتمي نسبياً إلى الطبقة الوسطى، وتعمل غالباً في مجالات فنية حديثة. هناك الأستاذ (محمود حميدة) الذي يدرّس التمثيل المسرحي في المعهد العالي للفنون، وهناك زوجته (عايدة رياض) التي تُدرّس الكمان، وصديقه المدرّس الأكاديمي أيضاً، والممثلة الشابة هند (هند صبري)، وحبيبها المصور الفوتوغرافي (خالد أبو النجا)، وآخرون ممثلون ومثقفون. طوال مشاهدتي فيلم كاملة أبو ذكرى الجميل هذا، كان يسيطر عليّ نوع من الحيرة، ونشأ بالتدريج عدد من الأسئلة المتعلقة بممارسة الفن في زمننا الراهن.
يندرج فيلم "ملك وكتابة" ضمن عدد قليل من الأفلام المصرية الجديدة المسماة "جادة" (مع التحفظ على الوصف) التي تسعى إلى تقديم نوعية سينمائية عالية، وإصابة قدر معقول من النجاح الجماهيري في آن، في وجه موجة السينما السطحية المسماة "شبابية" أحياناً، و"كوميدية" في أحيان أخرى (مع التحفظ أيضاً على كل هذه التوصيفات)، التي تغزو السينما المصرية منذ سنوات، من دون أن يعني ذلك أن السينما السائدة أو الجماهيرية في فترات أسبق، كالسبعييات والثمانينات من القرن الماضي، كانت أفضل حالاً. غير أن هامش السينما النوعية كان أوسع. في إطار أوسع، تنتمي الأفلام النوعية الراهنة إلى سينما نستطيع أن نصفها بالإنسانية أو العالمية، والتي تعنى بقصص الأفراد وتفاصيل الحياة وبطرح الأسئلة الوجودية، أكثر مما يهمّها ما تعورِف على وصفه بالقضايا الكبرى الاجتماعية والسياسية كالتي اهتمّت بها الأجيال المتعاقبة من فناني وكتاب ومخرجي ما اصطلح على تسميته بالسينما الواقعية.
لكن، وعلى غرار "السينما الشبابية" الخفيفة، فإن هذه الأفلام، بقدر ما هي ابنة تجارب سينمائية طليعية برزت خصوصاً في التسعينات من القرن الفائت وتمتد طبعاً إلى فترات أسبق، فهي تأتي أيضاً كردة فعل على هذه الأفلام، خصوصاً بعدما أدى الانكفاء الجماهيري عنها، إلى إحباط بعض رموزها الكبار من أمثال محمد خان وخيري بشارة ولاحقاً داوود عبد السيد وغيرهم ممن خاضوا غمار تجربة سينمائية "جادة"، وطرحوا في أفلامهم قضايا كبرى، بمعنى أنهم حاولوا التجاوب والتفاعل مع أسئلة زمنهم ونقلها إلى الشاشة.
هناك تحية متبادلة في "ملك وكتابة" بين جيلين: الجيل الذي نتحدث عنه، وجيل كاملة أبو ذكرى، عبر حضور محمد خان وخيري بشارة كضيفين رمزيين في الفيلم، كمخرجين أو بصفتهما "أستاذين" تحديداً. تعلن هذه التحية نسباً وأبوة (أو بنوة) بين الجيلين والتجربتين، وتوحي بأن المشروع الذي نهض به هذان الرائدان وغيرهما، مستمر وإن بأسلوب مختلف.
ما هو هذا الأسلوب؟
إنه قائم على شعار بسيط يعبّر عن قناعة أكيدة: إرضاء المشاهد الذكي بالدرجة الأولى (أي الذي "يحب السيما" بحسب عنوان تحفة أسامة فوزي السينمائية، أي المثقف سينمائياً على غرار معظم صنّاع الفيلم)، ومحاولة جعل المشاهد "العادي" أكثر ذكاء. وراء هذين النوعين من المشاهدين، ثمة طبعاً المشاهد "العالمي". ترجمة ذلك تعني عدم تصديع الرأس بمواضيع مغرقة في محليتها، أو حتى في عربيتها، والتركيز على عنصر الشخصيات وقصصها الفردية الخاصة، بوصفها الحاملة الأساسية للفيلم. وهي تعني أيضاً اعتماد لغة سينمائية لا يمكن وصفها بالسهلة أو الخفيفة، بقدر ما يمكن نعتها بغير المعقدة وغير التجريبية. لا نريد فيلماً "يضيع في الترجمة" (بحسب عنوان فيلم صوفيا كوبولا المحتفى به)، ولا نريد فيلماً هابط المستوى أو "خفيفاً" أو "سطحياً" في الوقت نفسه. نريد ببساطة فيلماً "مثقفاً/خفيفاً"، يحتوي على دراما كبيرة وخط سردي واضح ولغة بصرية رفيعة، دون أن يسبب للمشاهد أي إرباك، أياً كانت الفئة التي ينتمي إليها هذا الأخير.
نقطة التحول الأولى في "ملك وكتابة"، هي حين يكتشف الأستاذ الجامعي صدفة خيانة زوجته له. خيانة تمّ التقديم لها بشكل ممتاز في لقطات سريعة تظهر فيها الزوجة وهي تنظر إلى زوجها ونشعر من خلال نظراتها بذلك الانفصال العاطفي الكبير بينهما. لحظة اكتشاف الخيانة بالغة الكثافة، مع أداء ممتاز لحميدة وعايدة رياض، تقوم على النظرات وتعبيرات الوجه فحسب. بعدها، تختفي الزوجة (تعود من خلال رسالة يمزقها الزوج)، ونعرف من خلالها أنها كانت تحاول الاعتذار منه أو ربما الرجوع إليه، وتبدأ حكاية الزوج وصراعه الداخلي.
هنا، يأتي "الإنقاذ" متمثلاً بالممثلة الشابة هند. الأخيرة تقرر الانفصال عن حبيبها المصور الفوتوغرافي البوهيمي الذي لا يريد اتخاذ قرار حاسم حول حاضره ومستقبله، وبالتالي حول علاقته بها. كلا الانفصالين يتمّان بسلاسة كاملة. وحين يلتقي الأستاذ التقليدي بالممثلة الطموحة والحيوية هند، يحدث صدام، يتبعه وفاق، ثم يبدأ بناء الفيلم باتجاه خاتمته، حيث يكون كل واحد قد غيّر حياة الآخر. أستاذ التمثيل صاحب الأسلوب القديم في التدريس والذي ليست له أي تجربة عملية، والذي بينه وبين طلابه الشباب نوع من القطيعة، يتاح له عبر هند أن يكتشف العالم الفعلي للتمثيل السينمائي ويصاب بصدمة حين يكتشف أنه لا يجيد التمثيل، ويسخر منه العاملون في الاستوديو بإدارة محمد خان. لكن هند تساعده على تخطي أزمته وتدرّبه على مشهد صغير آخر يؤديه أمام كاميرا خيري بشارة وينجح به هذه المرة لأن المشهد متعلق بالخيانة، أي أن إبداعه الفعلي لا يتحقق إلا حين يأتي من الداخل، ومن تجربة يعرفها جيداً. في النتيجة يتغيّر الأستاذ في علاقته مع طلابه، ويتغيّر حبيب الفتاة في نظرته إلى الحياة، ثم في مشهد رمزي راقص في ختام الفيلم (في خلال حفلة يقيمها الأستاذ في منزله) نفهم أنهما عادا إلى بعضهما، في حين ينظر الأستاذ إليهما من الزاوية بنوع من الرضا والقناعة لأن هند ليست من سنه وبالتالي كان يستحيل نشوء علاقة عاطفية بينهما.
كل شيء يذهب باتجاه بناء نهاية لا أقول إنها سعيدة، بل إيجابية. باتجاه الخفة. ويتطلب هذا، بين ما يتطلبه، عزل الأحداث والشخصيات عن أي تأثيرات أخرى قد تحيط بها وتثقلها. لذلك تبدو هذه الشخصيات تتحرّك وتتفاعل انطلاقاً من تصوّر الكاتب والمخرج (دون أن ننسى مساهمة محمود حميدة الخفية) لما يجدر بها قوله والإيحاء به، من دون الخروج عن الإطار العام لفيلم يتوسّل الشفاء. ولذلك أيضاً، وبقدر ما تبدو الشخصيات (خصوصاً الشابة) حقيقية وعفوية، فإنها تبدو في المحصلة الأخيرة مجرد أفكار، عن السينما وعن الحياة في وقت واحد. كل ما يخرج عن حدود الفكرة/ الشخصية غير مرغوب فيه، بل إنه مقصي عن الإطار السردي للفيلم.
أعود إلى حيرتي الشخصية؛ ما يقدّمه الفيلم هو بالضبط ما يدافع عنه جيل كامل من المثقفين والفنانين العرب: الابتعاد عن الخطابية (السياسية) والمباشرة والدراميات المبالغ بها، والغوص في العوالم المغفلة للأفراد، وفي الوقت نفسه البحث عن لغة بصرية غير متكلّفة لا نشعر حيالها بالخجل إزاء مقارنتها بما ينجزه سينمائيون في بقاع شتى من العالم.
هذا صحيح. "ملك وكتابة" ينجح في تحقيق ذلك. وعلينا أن تبتهج به. لكن ثمة في النهاية ما يفسد هذه البهجة، وهو إصرار صنّاع الفيلم على إقصاء الواقع إلى أكبر حدّ ممكن. إقصاء تبدو معه فردية كل شخصية في الفيلم متماثلة مع أي فردية في أي مكان في العالم. فردية معمّمة لأنها تنطلق كما قلنا من فكرة عن "الفردية" ولا تحاول وضع هذه الفردية في سياقها العام الذي يكسبها خصوصيتها واختلافها ومذاقها الخاص.
هكذا، وبقدر ما، الشخصيات مرسومة بدقة في عالميها الداخلي والخارجي، خصوصاً الشخصية المحورية أي أستاذ التمثيل، وبقدر ما نعرف ونتحسس معاناته الشخصية، بقدر ما لأننا في حقيقة الأمر لا نعرف عنه شيئاً. الرجل يعمل في التدريس في بلد عربي، أي براتب يفترض أن يكون متواضعاً. وهو لا يبدو وريثاً، فهو من الطلاب المبتعثين في زمن سابق للدراسة في الاتحاد السوفييتي. غير أن وضعه الاجتماعي لا يبدو مهماً على الإطلاق في سياق الفيلم، المهم فقط أزمته الوجودية، بعد تعرضه للخيانة، وإعادة اكتشاف معنى لحياته. أما كل شيء آخر يحيط به، فينتقل عكسياً هذه المرة، إلى الهامش. هكذا يمكنه أن يكون موجوداً، بلا أي تغيير يذكر في نيويورك أو طوكيو أو المكسيك، ومثله هند وحبيبها المصور الفوتوغرافي الذي ما إن يقرّر، حين يكتشف أنه سيخسر هند، الحصول على عمل، حتى يحصل عليه، ويصبح شخصاً آخر.
الأمر نفسه ينسحب على المكان الذي يبدو هنا "مواقع تصوير" متنقلة أكثر منه مكاناً فعلياً. هدف المكان، سواء كان البيت أم المقهى أم النادي الليلي أم المستشفى أم الشارع، أن يكون مرآة للشخصيات، لا أكثر. أي أننا انتقلنا من السينما "الأيديولوجية" المكروه بعضها سابقاً، لكونها تلغي الأفراد وتفاصيل عيشهم على حساب الفكرة الكبرى المراد إيصالها، وبالتالي تغرق الشخصيات غالباً بخطابية مباشرة وسطحية من النوع الذي تنتفض عليه كاملة أبو ذكرى والممثلون الشباب في فيلمها، والمتمثل في شخصية الأستاذ ما قبل التحوّل، إلى سينما تجعل من "الفردية" عقيدة جديدة تلغى في سياق تمجيدها كلُّ الهوامش والظلال الاجتماعية الأخرى، وخصوصاً اللمسات المحلية المتعددة الثراء.
"ملك وكتابة" هو في نهاية الأمر فيلم عن السينما، عن حب السينما وفهمها وتقديم مثال مختلف لها (في أحد المشاهد نرى الأستاذ والممثلة الشابة يشاهدان معاً فيلم "سينما باراديزو" الإيطالي الشهير)، غير أن ما يضعف توهجه (وهو فيلم جميل كما قلت)، أنه رغم احترافيته العالية، يسلك الطريق السهل في "نقاش" السينما، متخذاً من أيديولوجيا الشفاء الهوليودية بالدرجة الأولى، أساساً له، في الوقت الذي يركّز صنّاعه نظرهم على جماليات السينما الأوروبية، مغفلين أن "النقاش" السينمائي الجدّي في معظم مراحل السينما الأوروبية، حتى وهو يتخذ من القصص الفردية أساساً له ويضع متعة المشاهدة ضمن أولوياته، هو في آخر المطاف نقاش سياسي وفكري واجتماعي وجمالي، نجد تعبيراته مثلاً في سينما أسامة فوزي بالغة الفردية، وبعض سينما داوود عبد السيد ورضوان الكاشف الفلسفية، لا مجرد ميل نخبوي إلى التوافق المريح مع بعض القيم السينمائية السائدة.
0 Response to "ملك وكتابة: من أيديولوجيا السياسة إلى أيديولوجيا الفردية"
إرسال تعليق