د. هشام عبد الصبور شاهين يكتب: ملك وكتابة !
في عام ٢٠٠٦ أنتج فيلم (ملك وكتابة) من إخراج كاملة أبو ذكري، ولقد استعرت عنوان الفيلم لمقالي؛ إذ إنه يتناول نفس فكرة الفيلم من منظور مختلف.
تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقة هي عادة يعتادها الإنسان في حالتين؛ الأولى إن كان لا يعرف أنه يفعلها فهو إنسان ضعيف مُغيّب، والثانية إن كان يقصدها فهو إنسان خبيث مغرِض، وأنا وأبناء جيلي من الذين عاصروا فترات حكم الرؤساء الثلاثة؛ عبد الناصر والسادات ومبارك، أجزم بأننا ننتمي إلى الفئة الأولى الضعاف المغيَّبين.. كيف ؟
على عهد عبد الناصر؛ سُمي قرار تخريب الأرض الزراعية بقانون الإصلاح الزراعي، وسميت بهدلة الصناعة الوطنية بقانون التأميم وإنشاء القطاع العام، وسمي البكباشي مدير مكتب الرئيس رئيسا، وهو بدوره سمى البكباشي صديقه مشيرا وقائدا عاما للقوات المسلحة، وسميت الهزيمة المنكرة في يونيو ٦٧ نكسة، وسميت الغوغاء قوى الشعب العاملة التي يرأسها صوصو، وعندما خرجوا إلى الشوارع ينادون بسقوط الحرية وسقوط الديمقراطية ويهتفون: أ..ـة أ..ـة لا تتنحى؛ سميت مظاهرات حب للرئيس، وأصبحت كرامة الرئيس هي كرامة مصر، ويا ويله وسواد ليله من يفكر لحظة واحدة في انتقاد الرئيس أو تصرفات الرئيس أو أن يقلل من إنجازات الرئيس؛ إذ إنه ساعتها سيكون منتقدا لمصر وسياسة مصر ورمز مصر، منتقصا من كرامة مصر.
فلما جاء عهد خلفه السادات؛ تعاظمت الصفة الكريهة في نفوس أبناء جيلي – كمصريين – فسمي التخلص من أذناب عبد الناصر الكارهين للرئيس ثورة التصحيح، ثم كان انتصار أكتوبر الذي لم يطلق عليه اسمٌ آخر، لأنه الإنجاز الحقيقي الوحيد الذي ينسب إلى الجيش المصري والشعب المصري، ومع ذلك اختصر النصر المبين في كثير من الأحيان إلى قرار العبور الذي أصدره الرئيس، ثم سمي تحويلنا إلى شعب مستهلك غير منتج بالانفتاح الاقتصادي، وسميت زيارة الخضوع لإسرائيل بالتاريخية، وسميت اتفاقية التسليم لإسرائيل باتفاقية السلام، وفي آخر عهد السادات الذي اعتبر نفسه رب العائلة المصرية؛ كان انتقاده انتقاصا من سلطة الأب، وإهانة لكرامة مصر أيضا، فكان من يرفض اتفاقية السلام مع إسرائيل عدوا للشعب، وعدوا للتنمية وداعيا إلى التخلف والعودة إلى الوراء.
ومع بداية عصر مبارك؛ كانت العادة قد أصبحت ظاهرة، فجيلنا كبر، ومن أساسات تربيته أن الخضوع لسلطان الأمن حكمة، وأن تقبل قرارات الحكومة مهما كانت آثارها عقل وتعقل، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات نزاهة وشفافية، والقوادة أصبحت إعلاما، والديكتاتورية هي علو مكانة ومنحة من الله، وهي بعينها الديمقراطية المنشودة في أزهى عصورها، وسرقة ممتلكات الشعب سميت خصخصة، وتجارة الأراضي والاستيلاء عليها سميت استثمارا، والمشروعات الفاشلة سميت تنمية، وبناء منتجعات الجولف والقرى السياحية والقصور سميت لحاقا بركب التقدم، والعري والفجور والمجون في الإعلام سميت حرية تعبير، والفوز في مباريات كرة القدم أصبح بطولة، والرقص والتمثيل والرقاعة وثقافة الانحلال ودهس القيم سميت إبداعا، وتلاشت من أذهاننا صور البطولة الحقيقية ليحل محلها بطولة الأفلام والمسلسلات وكرة القدم، وهكذا...
إبحث في ذاكرتك عزيزي عن أية قيمة من قيمنا في العهد البائد؛ وستجد أننا – حتى القيم – سميناها بأسماء مختلفة، فالكذب أصبح نجابة وذكاء، والقواد أصبح شريفا، والمنافق المتسلق أصبح وزيرا، والمرتشي أصبح هو الشاطر إللي (بيقلب رزقه)، والواسطة والمحسوبية أصبحتا حقا، والأمين أصبح لصا، والضابط أصبح قاتلا، والشعب هو الوحيد إللي مش عارف مصلحته فين..!
وهذا نداء إلى أبناء جيلي ممن يشككون في نوايا ثورة الشباب؛ أرجوكم وأتوسل إليكم أن تتركوا الشباب وشأنهم، فهم يقررون مصيرهم ومستقبلهم، وقد أثبتوا للتاريخ أنهم يريدون تغيير ما بأنفسهم فحق لهم وعد الله تعالى بأن يغير ما بهم، جيلنا عاش أيامه وسنين عمره وأقواله المأثورة: يا عم انا عندي عيال وعايز أربيها، يا عم احنا مالنا بالسياسة، دانا غلبان أدحرج القرش وادّارى في ظله، إمشي جنب الحيط... إلى آخر هذه الكلمات التي شكلت وجداننا، فأرجوكم لا تحاولوا أن تلقنوها لهم فهم لن يستمعوا لكم.
ونداء إلى الثوار في كل ميادين التحرير في مصر، أرجوكم.. لا تسمعوا كلامنا ذا الوجهين ملك وكتابة، ولا تحذوا حذونا فتعيشوا حياتكم مثلنا في خرابة، ولا تقتدوا فيما ذكرت لكم من المفاهيم المغلوطة بنا، سِمّوا الأشياء بأسمائها الحقيقية؛ ولا تقبلوا ألفاظ الحذلقة والتفنن من كبارنا، ولا تقبلوا الدنيّة في ثورتكم، فأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأنتم قد قدمتم منكم شهداء لا يجوز بعد تقديمهم التراجع، فهذا زمانكم وهذا مستقبلكم وهذه انتخاباتكم؛ فلا تفوتوا فرصتها... واسلمي يا مصر.
الليالي من الزمان حبالى صامتات يلدن كل عجيب
0 Response to "د. هشام عبد الصبور شاهين يكتب: ملك وكتابة !"
إرسال تعليق